مقالات
أخر الأخبار

دكتور هشام نوار اللايف كوتش والعلاج النفسي: خلاف مفتعل أم تكامل غائب؟

بقلم: د. هشام نوار – استشاري الصحة النفسية ومدرب دولي ومطوّر نموذج TRC للتعافي.

في المشهد النفسي والإنساني الحديث، لا يكاد يمر أسبوع دون أن نرى جدلًا جديدًا، معلنًا أو خفيًا، بين مناصري اللايف كوتشينج وأنصار العلاج النفسي.
الطرفان يتحركان بنوايا نبيلة في الغالب، كلٌّ يسعى لدعم الإنسان ومساعدته على تجاوز ألمه أو عبور أزمته.
لكن خلف هذا السعي، تتردد تساؤلات جوهرية:
* هل اللايف كوتش بديل للمعالج النفسي؟
* هل المعالج النفسي يصلح دائمًا ليكون مرافقًا في رحلة التغيير؟
* وهل يمكن أن يجتمعا في مساحة واحدة دون أن يطغى أحدهما على الآخر؟

من أين يبدأ الخلط؟

الخلط يبدأ من الخوف… ومن الجهل أيضًا.
الخوف من أن يفقد كل طرف أرضه في ساحة المساعدة.
والجهل بتعقيد النفس البشرية، التي لا يمكن أن تُختزل في عنوان واحد: لا كوتشينج ولا علاج.

في الواقع، كلا التخصصين يخدم الإنسان، لكن من زوايا مختلفة.
المعالج النفسي يغوص في الجذور، في الطفولة، في المشاعر العميقة، في التكوين.
الكوتش يركّز على الخيارات، القرارات، التغيير، والتقدّم.

لكلٍ مجاله الحيوي، ولكلٍ لحظة يُحتاج إليه فيها.

التكامل الممكن… والمطلوب

الإنسان لا يعيش فقط في الماضي الجارح ولا في الحاضر المتفائل.
هو كائن زمني يعيش مزيجًا من الذاكرة، والإرادة، والتطلّع.

ولهذا، لا تكفي أداة واحدة. لا المعالج وحده يكفي، ولا الكوتش وحده يُغني.
نحن بحاجة إلى تكامل حقيقي، يحترم الحدود، ويعترف بالمشترك.

ولأن الحدود بين الجروح والقرارات، بين الذاكرة والفعل، بين التعلّق والتخلي… أصبحت أكثر ضبابية،
ظهرت الحاجة لنماذج أكثر مرونة، أكثر إنسانية، لا تُلغي أحدًا، بل تستوعب الكل.

في الرحلة: من الاحتضان إلى البناء

في السنوات الأخيرة، بدأت تظهر مدارس جديدة تراعي هذا التكامل، لا على مستوى الخدمة فقط، بل على مستوى المنهج.

مدارس لا تضع المعالج في مواجهة الكوتش، بل تضع الإنسان في مركز المشهد، وتستخرج لكل مرحلة أدواتها.
بعض هذه النماذج جمع بين:
• إحتضان وتحرير الماضي (Transcend)
• إعادة ولادة الحاضر (Rebirth)
• بناء المستقبل (Commit)

لا عبر إعلان صاخب أو ادّعاء مطلق، بل عبر ممارسة دقيقة تحترم الألم، وتُقدّر القرار.

ولعل من التجارب اللافتة في هذا السياق، ظهور نماذج عربية بدأت تبني هذا الجسر،
جسر الاحتضان لا الإنكار، والسلام لا الدفاع، والالتزام لا التشتت.

رحلة تحمل في طيّاتها ثلاثية:
‏Release – Change – Trust
رحلة لا تُقصي المعالج، ولا تتعالى على الكوتش، بل تطلب من الاثنين نضجًا يتجاوز الألقاب.

ليس سؤال “من الأفضل؟”… بل “متى؟ وكيف؟”

السؤال الحقيقي ليس: “من الأفضل؟”
بل: “متى أحتاج هذا؟ ومتى أحتاج ذاك؟ وهل أنا مستعد للمرآة، أم للخطوة؟”

العميل الناضج لا يبحث عن بطل خارجي، بل عن مرآة صادقة، ومرافقة مهنية لا تتقمص أدوارًا ليست لها.
والمهني الناضج هو من يعرف حدود أدواته، ولا يستحي من الإحالة، ولا يتورّط في أداء دورين بحجة أن النية طيبة.

ختامًا… ما بين المرآة والخطوة

في زمنٍ ازدحم باللافتات اللامعة والتعريفات المستوردة،
تراجعنا كثيرًا عن سؤال: “من نحن؟ وما الذي يناسبنا؟”

استوردنا مفاهيم من ثقافات لا تشبه وجعنا،
ولا تعرف شيئًا عن الصمت العربي، ولا عن البيوت التي تخجل من الألم وتخاف من المواجهة.

ضاعت مساحات كاملة بين تخصصات لا تنصت لبعضها،
وأجيال تبحث عن يد تُمسكها لا عن شهادة تُعلّقها،
وبات الإنسان العربي — في منتصف الطريق — لا يجد نفسه لا هنا ولا هناك.
لا يسمع لغته لا في العيادة النفسية، ولا في قاعة التدريب.

كأن الموروث، والروحية، والبعد الجمعي، والأسئلة الوجودية الكبرى…
كأنها غير مرئية في عيون النماذج المستنسخة.

لهذا، لسنا بحاجة لنقاش تقني حول “من الأفضل؟”
بل لحركة وعي تعيد ترتيب المشهد كله.
حركة تتواضع للإنسان، وتستحي من الادّعاء، وتبحث بصدق عن توليفة تُشبهنا.

نحن لا نبحث عن وصفة جاهزة،
بل عن طريق نابع من الجذور… يعترف بالوجع، ويُراعي السياق، ويُمسك بيد الإنسان العربي في رحلته بين الاحتضان، والسلام، والالتزام.

نحتاج إلى ما هو أبعد من تقنيات التدريب، وأعمق من أدوات العلاج.
نحتاج إلى خطاب يرى الإنسان في كلّيّته: بجراحه، ومعتقداته، وتاريخه، وانحيازاته، ومخاوفه من أن يختار.

وهنا، تبدأ النماذج الأصيلة التي لا ترفع لافتة “العلاج” ولا “الكوتشينج” كرايات حرب…
بل تفتح أبوابًا لرحلة تعافٍ حقيقية،
رحلة تُشبهنا، وتفهمنا، وتنادينا بأسمائنا، لا بنسخنا.

فهل آن أوان هذا الوعي؟
هل نمتلك الشجاعة لنبني ما لم نرثه؟
وهل نترك المساحة لاختياراتنا أن تُولد من داخلنا، لا من خارطتهم؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى